وائل خليل ياسين ، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والتنمية ، استشاري متخصص بحوث سياسات مجلس الدولة الصيني لشؤون غرب اسيا وشمال أفريقيا
حمل الترحيب السعودي الفاخر والراقي بالرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته الى المملكة الكثير من الاسئلة عن مصير العلاقات بين الرياض وبكين، فأصبح من المؤكد ان ذلك يُخرج الأميركيين عن طورهم حيث انهم دائما يتوهمون وباتوا يعيشون دائما في وهم ان السعودية في مرحلة التفتيش لايجاد البديل عن القطبية الامريكية، و تطور العلاقة يشكل نقطة تحوّل في موقع هذه المنطقة النفطية من التحالفات العالمية أم لا، يأتي ذلك في ظل توتر العلاقة بين الادارة الأمريكية و السعودية، اما في الضفة الصينية المقابلة لا شك ان تنامي هذه العلاقات مع المنطقة العربية تدفع بتسريع عجلة “قطار مبادرة الحزام والطريق” نحو استكمالها، بل ويضع الصين امام جدية تطوير العلاقة وتحديث وجودها في الاستثمار الاقتصادي والحماية الامنية والتحالفات السياسية. مما يرتب ذلك عليها توسع مسؤوليتها في العالم. ومع ذلك، رغم ان ما يتم الاعلان عنه من اتفاقات واستثمارات وصفقات لم تصل بعد لمرحلة الاستفزاز الكامل للامريكي لكونها لم تشمل صفقات اسلحة ضخمة ومتطورة او بناء معامل اسلحة، انما لا زالت تحت سقف تجاري بين “بائع ومشتري”.
وبين عام انقضى فاضت فيه خزائن الدول الخليجية ” النفطية” في السيولة نتيجة ارتفاع اسعار النفط عالمياً مما سبب لها مردودا ضخماً، يجعلها تفتش عن استثمارات تجارية وصناعية تساهم في ازدهار ونمو المنطقة للمرحلة المقبلة والتي يرجح ان ترتفع وتيرة استثمار المشاريع في عام 2023، ويقدر ان يكون النصيب الصيني منها الرقم الاعلى.
وربما ما زاد الانزعاج الامريكي في الاتفاقات الصينية – السعودية، هو الاتفاق مع شركة هواوي، الذي ركز شموله الحوسبة السحابية وبناء مجمعات ذات تكنولوجيا عالية في المدن السعودية. لأن كثيراً ما حاولت امريكا عرقلة هذا الاتفاق من خلال تحذيراتها وتهديداتها الأمنية من أن التجهيزات الصينية، يمكن استخدامها للتداخل مع شبكات الجيل الخامس اللاسلكية والحصول على معلومات حسّاسة. ومع ذلك، ساهمت الشركة الصينية في بناء شبكات الجيل الخامس في معظم الدول الخليجية.
فلا شك ان قيمة الاتفاقات الصينية – السعودية وتناميها يضع بكين امام خيار ثابت وهوالتركيز على كيفية توسيع شركاتها رغم الانزعاج الامريكي انما من دون احداث متغيرات كبرى في التوازنات العالمية، والتي تؤكد المعطيات الدولية ان الصين لم تصل بعد إلى مرحلة قلْب الطاولات، انما هي بصدد توضيح العلاقة الصينية الايران وانها لم تصل الى مرحلة التحالف بل تنطلق من مبدأ ” الشراكة وعدم الانحياز”، وذلك لما لمسته بكين من الدول العربية من رغبات عربية وسعودية في تشذيب هذه العلاقة ووضعها في الاطار الصح وتوظيفها للحد من التلاعب باستقرار المنطقة.
فلا شك ان دائرة الاستثمار وتنامي العلاقة بين البلدين (السعودية و الصين) متوقع لها الى اتساع واكثر حراكاً خلال السنوات القليلة المقبلة وبحسب التقديرات انه من المتوقع ان تصل قيمة هذه الاستثمارات الخليجية الصينية سنويا الى 500 مليار دولار. من هنا كان واضحاً مدى الاهتمام الدولي قبل الاقليمي بزيارة الرئيس الصيني الى المملكة العربية السعودية، خاصة من قبل الاعلام الغربي، الامريكي والاوروبي، لأن الجانب الخليجي يرى ان هذه الزيارة تأتي في وقت توتر العلاقات السعودية الامريكية، بمثابة اعلان ان الدول العربية وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية تفتش عن البديل الامريكي “القطبية الاحادية” وتريد استبدالها ب”التعددية قطبية “لان الاخير فشل في حماية المصالح السعودية وكذّب في تقليم المخالب الإيرانية في المنطقة كما يعد دائماً.
وان زيارة الرئيس الصيني وما رافقها من حفاوة واستقبال وانعقاد القمم الثلاث في الرياض يؤكد بما لا يقبل الشك بأن دول مجلس التعاون الخليجي لن تكون طرفاً من أطراف الصراعات كما تشتهي الولايات المتحدة وتخطط، ولن تنحاز إلى أي طرف وستعمل على ضمان أن لا يتصاعد التنافس الاقتصادي والجيو- سياسي بين الصين والولايات المتحدة إلى صراع عسكري ، اضف الى ذلك انها ستكون عاملاً مهماً ورقماً صعباً في المعادلة الدولية من جهة ضمان الاستقرار الامني وضمان الاستقرار في انتاج النفط واسعاره وتدفقاته.
من هنا بدى ان الرياض تتريث لأن توازي العلاقات الاقتصادية بالسياسية، الى حين اتخاذ القيادة الصينية خطوات في سبيل تطوير العلاقات الثنائية عبر اظهار ان علاقتها مع ايران لا تتخطى مبدأ الشراكة وعدم الانحياز وهي على نفس المسافة من جميع الاطراف في المنطقة وان الصين لديها الاستعداد للسعي عبر علاقاتها لكي تكون وسيطاً يعمل على حل النزاعات وارساء الاستقرار في المنطقة واتخاذ موقف واضح من التدخلات في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ، اذ ان عدم توضيح هذه العلاقة من شأنه ان ينعكس سلبا على العلاقات الصينية العربية وخصوصا الخليجية واكثر خصوصية المملكة العربية السعودية، لأن المعترضين على الانفتاح العربي على الصين ينطلقون بمعارضتهم من ما تواجهه المملكة من تعديات من قبل تنظيم انصار الله الحوثي اليمني المدعوم ايرانياً. ومن هذا المنطلق، ولان للنفط اهمية وظيفية اقتصادية وسياسية، يقوي الواحد الآخر، فإزدادت أهميته في اقتصاديات الدول، كلما ارتفعت مداخيله، كلما اكتسبت الدولة المنتجة والمصدّرة مكانة سياسية واقتصادية على المستويين الإقليمي والدولي. لهذا فان ما قبل 2022 ليس كما بعدها، اي ما قبل زيارة الرئيس الصيني للرياض ليس كما بعدها مهما حاولت الدول الغربية التقليل من اهمية هذه الزيارة.
فتور العلاقة السعودية الامريكية
وبالعودة الى واقع العلاقة الامريكية السعودية، لم يعد خافياً ان العلاقة اصبحت متباينة بين السعودية والادارة الجمهورية عن العلاقة مع الادارة الديمقراطية (يسجل ان هذا التباين قديم)، وظهر على سطح مياه العلاقة بعد هزيمة دونالد ترامب امام جو بايدن، انما لا يعني هذا التباين تناقضًا في السياسات والمواقف في بقية الملفات، فلا تزال الشراكة قائمة بين الدولتين والتنسيق في ملفات عديدة، منها الحرب على الحوثيين في اليمن، العراق، سوريا، لبنان، باكستان، إيران. من هذا المنطلق يمارس الملك سلمان سياسة ادارة التناقضات بكثير من الحنكة والمسؤولية فيعمل حالياً على الاستثمار السياسي امريكياً بين الديمقراطيين والجمهوريين، وبالتالي يعوّل كثيرًا على فشل بايدن وهزيمته، وتاليًا عودة الجمهوريين لاستئناف دعم مشروعه السياسي والاقتصادي، وبالتالي يكون اكتسب التقارب الصيني السعودي وكذلك الروسي بما يساعد ذلك على رفع الوزن العربي بعدما اصبح ضعيفا مشتتاً.
فلا يخفى ان العلاقة بين واشنطن والرياض ليست علاقة عابرة، فالسعودية ليست دولة مارقة، فهي لديها من الموارد المالية الضخمة ما يجعلها دولة جاذبة للغرب والشرق على السواء. اضافة الى موقعها الاستراتيجي لأنها تطل على ممرين مائين حيويين البحر الأحمر والخليج العربي، وتشكل حلقة وصل بين القارتين آسيا وافريقيا. اضافة ايضاً الى نفوذها المعنوي والرمزي في المحيطين الخليجي والعربي وفي المحيط الإسلامي.
وهذه العوامل من الطبيعي انها تحتفظ بأهميتها على المدى المنظور، ما لم يحدث تغيّر في مركز التجاذب الدولي، أي انتقال ثقل العالم من الغرب الى الشرق، وصعود قوى اقتصادية وبروز أسواق دولية جديدة تخفّض من أهمية غرب آسيا، وهو المرشّح وقوعه في العقد القادم
وحول القوى النافذة في النظام الدولي يطرح السؤال حالياً عن دور النفط في الداخل والخارج في المشاكل الامنية والسياسية ؟
فتكون الاجابة انه لابد من تثبيت نقطة رئيسة تتعلّق بالنفط ذاته كلاعب فاعل في الاقتصاد والصناعة والسياسة على المستوى الدولي، وطالما هو سلعة يحتاجها العالم برمته، فسوف يبقى للنفط دور مزدوج اقتصادي وسياسي.
بحسب التقديرات والاحصاءات لعامي 2020/2021 تتصدر السعودية قائمة الدولة المصدّرة للنفط بواقع 6.6 مليون برميل يوميًا، وتأتي روسيا في المرتبة الثانية بواقع 4.6 مليون برميل يوميًا، ثم العراق 3.4 مليون برميل، ثم الكويت والامارات وإيران بكميات أقل.
زادت صادرات النفط من السعودية بنسبة 123٪ عن العام السابق، بسبب ارتفاع أسعار الخام. وارتفعت حصة النفط من إجمالي الصادرات إلى 77.6٪ في أكتوبر من 66.1٪ . وهذا يعني، أن النفط لا يزال هو الرقم الصعب في يوميات الاقتصاد العالمي، وثانليًا أن السعودية لا تزال تراهن على النفط كمصدر دخل رئيسي.
ففي حقيقة الأمر، إن آسيا تستهلك 70 في المئة من النفط السعودي فيما تستهلك أوروبا 12 في المائة فقط منه، وأن الصين، وليست الولايات المتحدة، تستورد الكمية الأكبر من النفط السعودي، هذا ما يرفع من نسبة الخوف السعودي من زعزعة الامن والاستقرار الداخليين للضغط على الصين طالما هي تستورد اقل من الصين.
تكمن المشكلة أن لا بديل جدّي حتى الآن يمكن له أن يحل مكان النفط، قبل أن تنجح البدائل الأخرى في تغطية حاجات السوق العالمية. وهذا يعني أن السعودية كمنتج رئيس للنفط سوف تلعب دورًا اقتصاديًا وسياسيًا في المرحلة المقبلة، ولكن هذه المرة في المنطقة الآسيوية وليس الغربية (الأوروبية والأميركية). بطبيعة الحال، سوف يكون لدول أخرى مثل العراق وإيران دور فاعل في سوق الطاقة، حتى بالنسبة للصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية بصفتها أكبر البلدان الاِسيوية المستوردة لنفط الشرق الأوسط.
هذا الدور للنفط السعودي في المنطقة الاسيوية يزيد من مخاوف فتح ابواب زعزعة الامن والاستقرار فيها من قبل المجموعات الاسلامية المتطرفة الموجهة من قبل الاستخبارات الغربية.
تنامي العلاقات الخليجية الصينية
.
لم يعد سراً خافياً على أحد أن دول مجلس التعاون الخليجي (مجتمعة وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية) بدأت تنتهج تنويع سياساتها الخارجية عبر توجيه المزيد من الاهتمام نحو دول جنوب شرق آسيا (الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية) وابرز هذه العلاقات مع الصين، أو المعروفة حالياً بما يطلق عليها “شرقًا” وذلك انسجامًا مع التحولات الدولية والإقليمية. ويعود هذا الاهتمام العربي بالتوجه شرقاً لردع ممارسة الغرب لسياسة الضغوط والابتزاز الامريكي، فارتفع منسوب التواصل الخليجي مع الصين تدريجياً بدءاً منذ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وتواصلت بعد غزو العراق، لتتصاعد الوتيرة أكثر في عهد فترة رئاسة أوباما بعد اعلان فشل منظومة الاقتصاد الرأسمالي الحر مقابل صعود اقتصادات الشرق والتي هي مزيج مخلوط بين اقتصاد اشتراكي موجه واقتصاد رأسمالي منظم، مما ادى الى انتقال ثقل الاقتصاد العالمي نحو آسيا، مترافقًا مع تنامي الطلب على إمدادات الطاقة وارتكزت التجارة في معظمها على النفط الخام، والغاز الطبيعي المسال، ومنتجات البتروكيماويات، فكانت العمود الفقري للروابط الاقتصادية المتنامية بين الطرفين.
ولأن الصين كانت اكثر سرعة في نمو الاقتصاد مقارنة بإقتصادات العالم. لذا، تتطلع جميع دول الخليج العربي بدون استثناء إلى تحقيق مزيد من الأهداف الاستراتيجية ونسج علاقات وتحالفات مع الصين اولا لكون بكين لا تستثمر في النزاعات والزعزعات الامنية او تقيم الاحلاف وتجارة سفك الدماء، هذا ما يجعل شعوب العالم الثالث بحاجة لتوسيع دائرة فتح افق الاستثمار وتنشيط الأسواق الآسيوية واستقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا المتطورة التي تدعم خطط التنويع الاقتصادي داخل دول الخليج. ومن المتوقع ان يشهد عام 2023 مزيد من الاستثمار في الأمن الغذائي عبر تدفقات دائمة من السلع والمنتجات الغذائية، والمشاريع الزراعية الضخمة.
ومع تقدم الصناعات القائمة على تكرير البيتروكيميائيات، يتم اطلاق مشروع مشترك من أكبر المشاريع الأجنبية المشتركة في الصين، بين أرامكو السعودية 35% من المشروع الجديد ومجموعة “نورينكو” وشركة “بانجين سينسين” الصينيتين لتطوير مشروع هواجين المتكامل للتكرير والبتروكيميائيات في مدينة بانجين بمقاطعة لياونينغ الصينية، قد تتجاوز قيمة المشروع 37.5 مليار ريال على أن تبدأ الأعمال التجارية له في عام 2024 .
كما يفترض ان يكون العام الجديد بالنسبة للصين محطة متقدمة في الانفتاح على الاسواق العربية والاسلامية والتبادل الثقافي، لذا ستشهد بكين العديد من النشاطات الثقافية المشتركة التي من شأنها تعريف المجتمعات الصينية على العربية وبالعكس، واقامة المعارض الثقافية والتجارية والصناعية للتعريف عن أهمية مبادرة الحزام والطريق في نهضة المنطقة اقتصاديا وصناعيا وثقافياً وزراعياً، وتذليل العقبات التي لازالت قائمة وتمنع انجاز هذا المشروع التاريخي، ومن أجل متابعة التقدم التكنولوجي والطاقة البديلة وثورة الصناعات التي تعتمد على الطاقة الشمسية والهوائية الصديقة للبيئة بما فيها صناعة السيارات.
ويوماً بعد يوم تثبت بكين أنها منذ ان اقامت علاقات صداقة وتعاون مع دول المجلس التعاون الخليجي ارتفع منسوب الصادرات والصناعات المصدرة، وتم تطوير آلية للتعاون الشامل في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والمالية والثقافية والعسكرية وفي الطاقة.
لا يختلف اثنان ان هذا الانفتاح مردوده مزيد في استقرار المنطقة امنياً، ما يعيد خلط الاوراق السياسية واعادة توزيعها بعد اشتداد عصب عودها الامني والعسكري، فيخلق ذلك جو استقراري تحفيزي ما يشجع مزيد المشاريع في المنطقة. وبقدر استفادة دول الخليج من هذه الاتفاقيات ايضاً الصين المستفيدة لان شركاتها ومؤسساتها لديها خبرات واسعة في غالبية المجالات، ويمكنها أن تقوم بتنفيذ مشاريع ضخمة كالموانيء وسكك الحديد والطرق العامة